«الدولار هو الملك» .. مقولة تتأكد صحتها بالسنوات الأخيرة ( تحليل اقتصادي )
العملة الخضراء ارتفعت بأكثر من 50% على مدى 15 عاماً مقابل سلة العملات الرئيسية

كما يقول المثل، فإن “الدولار الأمريكي هو الملك”. وقد تأكدت صحة هذه المقولة في السنوات الأخيرة أكثر من معظم الحقب التاريخية الأخرى، بعد ارتفاع قيمة العملة الخضراء بأكثر من 50% على مدى 15 عاماً مقابل سلة من العملات الرئيسية، وذلك من نهاية الأزمة المالية العالمية وأزمة الديون الأوروبية بين عامي 2008 و2011 حتى تنصيب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة للمرة الثانية في عام 2025.
جاء ذلك على خلفية التفوق الدائم للأسواق المالية الأمريكية مع تبني العالم لشعار “لا يوجد بديل”. وفي ظل العوائد المنخفضة لأسباب هيكلية، وضعف السيولة، وارتفاع المخاطر في الاقتصادات المتقدمة والناشئة الأخرى،
يواصل المستثمرون الدوليون توجيه التدفقات إلى سندات الخزانة والأسهم الأمريكية، مستفيدين من العمق والأمان والابتكار الذي تتميز به الأسواق الأمريكية.
وكان هذا الطلب المستمر على الأصول المقومة بالدولار، والذي تدعمه المزايا المؤسسية والجيوسياسية الفريدة التي تتمتع بها الولايات المتحدة، سبباً في دفع تدفقات رؤوس الأموال القوية التي أدت بدورها إلى ارتفاع ملحوظ في قيمة العملة الأميركية.
لم تعكس قوة الدولار الديناميكيات الدورية فحسب، بل عكست أيضاً الدور الهيكلي الراسخ للولايات المتحدة باعتبارها الملاذ المالي الآمن الرئيسي في العالم.
ولكن العوامل القوية الداعمة للدولار الأمريكي بدأت تواجه عقبات كبيرة في عام 2025، حيث انهار مؤشر الدولار الأمريكي (DXY) بأكثر من 10% منذ بداية العام حتى الآن.
وكان انخفاض قيمة الدولار بمثابة التحرك الأكثر حدة للعملة الأمريكية في عام واحد منذ 1973، عندما قام الرئيس ريتشارد نيكسون آنذاك بوضع الخطط لفك ارتباط الدولار الأمريكي بالذهب وما تبعه من انخفاض كبير في قيمة الدولار.
وكان الانخفاض الأخير في مؤشر الدولار الأمريكي أيضاً واسع النطاق، فقد شمل جميع العملات الرئيسية داخل سلة المؤشر، أي اليورو، والين الياباني، والجنيه الإسترليني، والدولار الكندي، والكرونة السويدية، والفرنك السويسري.
يشير تقييم الدولار الأمريكي إلى أنه على الرغم من حدوث تعديل كبير في أسعار صرفه حتى الآن هذا العام، إلا أن هناك مجالاً أكبر لحدوث مزيد من الانخفاض في قيمة الدولار الأمريكي، خاصة على المدى الطويل.
إحدى الطرق الشائعة لفحص “تقييمات” العملة هي تحليل أسعار الصرف المرجحة بالتجارة والمعدلة حسب التضخم، أي أسعار الصرف الفعلية الحقيقية، ومقارنتها بمتوسطاتها أو معاييرها التاريخية عبر أطر زمنية مختلفة.
تُعتبر مقاييس أسعار الصرف الفعلية الحقيقية هذه أكثر دقة من أسعار صرف العملات الأجنبية التقليدية لأنها ترصد التغيرات في أنماط التجارة بين البلدان بالإضافة إلى الاختلالات الاقتصادية المتمثلة في التضخم وفروق التضخم.
تشير أسعار الصرف الفعلية الحقيقية لمنتصف عام 2025 إلى أنه لا تزال هناك مبالغة كبيرة في قيمة الدولار الأمريكي مقارنة بجميع الأطر الزمنية الرئيسية. وتجدر الإشارة إلى أن التعديل على المدى القصير يضع الدولار الأمريكي دورياً بالقرب من قيمته “العادلة”، إلا أن التقديرات على المدى الطويل لا تزال تشير إلى مبالغة كبيرة في قيمته.
نرى أن هذه “المبالغة في القيمة”، إلى جانب العوامل الدورية والهيكلية، تخلق بيئة يُرجح أن تسود فيها ضغوط البيع على الدولار الأمريكي.
على الصعيد الدوري، من المتوقع أن تتراجع الاستثنائية الأمريكية بشكل ملحوظ، مع تقارب كل من فوارق النمو وأسعار الفائدة مع المستويات السائدة في الاقتصادات المتقدمة الأخرى.
ومن المتوقع أن يتقلص فارق نمو الناتج المحلي الإجمالي بين الولايات المتحدة ومنطقة اليورو، الذي كان لصالح الولايات المتحدة بمتوسط سنوي قدره 220 نقطة أساس خلال السنوات القليلة الماضية، إلى 70 نقطة أساس خلال الفترة 2025-2027.
ومن المتوقع أن يكون ذلك مدفوعاً بالسياسات المالية السلبية وسياسات الهجرة المتبعة في الولايات المتحدة، وما يقابلها من سياسات مالية أكثر إيجابية في منطقة اليورو.
علاوة على ذلك، في حين أنه من المرجح أن يكون البنك المركزي الأوروبي قد اختتم برنامجه لتخفيف السياسة النقدية أو أنه قريب جداً من ذلك، من المتوقع أن يُجري بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي تخفيضات كبيرة في أسعار الفائدة خلال الفترة المتبقية من عام 2025 وأيضاً في عام 2026.
ومن المقرر أن تضيق الفجوة الحقيقية بين أسعار الفائدة الأمريكية وأسعار الفائدة في منطقة اليورو من 170 نقطة أساس حالياً إلى الصفر بحلول أواخر عام 2026.
وبالنظر إلى هذه العوامل مجتمعة، من المفترض أن ترتفع قيمة اليورو مقابل الدولار الأمريكي، مما يدفع مؤشر الدولار الأمريكي إلى مزيد من الانخفاض – حيث يمثل اليورو 57.6% من سلة مؤشر الدولار الأمريكي.
على الصعيد الهيكلي، يبدو أن إدارة ترامب حريصة على هندسة تعديل كبير للاقتصاد، حيث تُفضل تقليص عجز الحساب الجاري وإعادة توطين أنشطة التصنيع الحيوية. ولتحقيق ذلك، يجب تقليص كمية كبيرة من الفوائض من الشركاء التجاريين الرئيسيين للولايات المتحدة، مما يقلل من توافر التدفقات عبر الحدود التي تدخل الولايات المتحدة وتدعم عملتها.
وعلى نحو هام، فإن إعادة التوازن الهيكلي لتخصيصات رؤوس الأموال العالمية قد يؤدي إلى موجة كبيرة من تدفقات رؤوس الأموال الخارجة من الولايات المتحدة. تُعتبر الولايات المتحدة حالياً مديناً صافياً كبيراً لبقية العالم، حيث يبلغ صافي مركز الاستثمار الدولي (NIIP) السلبي 24.6 تريليون دولار أمريكي.
وستتطلب أي عملية تصحيح ولو طفيفة لهذا الخلل الكبير مزيداً من تدفقات رؤوس الأموال الخارجة من الولايات المتحدة على مدى سنوات، مما يسبب ضغوط بيع إضافية للدولار الأمريكي.
بشكل عام، لا يوجد ما يشير إلى انخفاض قيمة الدولار الأمريكي بشكل مفرط هذا العام، حتى وإن كان التراجع الأولي خلال النصف الأول أكثر حدة.
ولا تزال هناك “مبالغة في قيمة” الدولار الأمريكي عبر أطر زمنية مختلفة، وتشير العوامل الدورية والهيكلية إلى بيئة تهيمن عليها ضغوط بيع إضافية للعملة الخضراء.
المصادر: بلومبرغ، تحليلات QNB هيفر، بنك التسويات الدولية